في هذه السلسلة المستمرة من المقالات، التي ستُنشر شهرياً، تركز داي آند نايت على الأفراد الذين كان لهم أكبر الأثر في عالم صناعة الساعات الراقية… وهذا الشهر، نعود مرة أخرى إلى سويسرا عبر ما كان يُعرف سابقاً بيوغوسلافيا، لنتحدث عن ميكي إليتا، حياته وشغفه بهذه الصناعة؛ وهو صانع الساعات الذي كان السبب في إضافة فئة جديدة بالكامل إلى جوائز مسابقة جائزة جنيڤ الكبرى لصناعة الساعات الراقية GPHG.
في العام 2021، كانت ساعة Svemir (وهي كلمة تعني الكون باللغة الصربية الكرواتية) من صنع ميكي إليتا؛ هي المنافس الرئيسي على جائزة الاستثناء الميكانيكي في مسابقة جائزة جنيڤ الكبرى لصناعة الساعات الراقية GPHG، رغم أنه في النهاية كانت الساعة الفائزة هي ساعة بولغري أوكتو فينيسيمو. إلا أن ساعته مهدت الطريق لإضافة فئة جديدة إلى فئات المسابقة باسم الساعة الميكانيكية-“Mechanical Clock” ، والتي يعرّفها موقع GPHG الإلكتروني بأنها أدوات قياس الزمن الميكانيكية، مثل الساعات ذات البندول (ذات العلبة الطويلة)، أو ساعات الطاولة. وكأحد رجال عصر النهضة الحقيقيين، أتقن ميكي العديد من الفنون والحرف اليدوية في طريقه المليء بالعقبات إلى صناعة الساعات. إلا أن الأمر المذهل حقاً أنه هو من علّم نفسه معظم المهارات التي اكتسبها.
طفولة محظوظة
وُلد ميكي في العام 1950 في ڨيسغراد، البوسنة والهرسك – التي كانت آنذاك جزءاً من يوغوسلافيا – وعاش طفولة رائعة في يوغوسلافيا يصفها بأنها طفولة محظوظة. يقول: منذ عمر السادسة، كنت مهتماً بالموسيقى، لقد كنت مفتوناً بالغيتار وموسيقى الفلامنكو. وعندما كبر ميكي أخذ بالذهاب إلى صالة الألعاب الرياضية المحلية، وبعد أن غادر المدرسة التحق بجامعة سراييفو لدراسة العلوم الاجتماعية.
يقول: لم أعمل مطلقاً في مجال العلوم الاجتماعية. فبعد أن أنهيت دراستي الجامعية، وكان عمري 23 عاماً، دبرت أمري للسفر إلى سويسرا لأنني أردت كسب بعض المال حتى أتمكن من شراء غيتار. في ذلك الوقت كانت شقيقة ميكي تعيش في سويسرا، ولذا كان بإمكان ميكي السفر إلى هناك من يوغوسلافيا بسهولة.
أوقات سعيدة
في سويسرا حيث كان ميكي يعمل مساعد ممرض، التقى بزوجته المستقبلية إليزابيث التي كانت تعمل ممرضة في المستشفى نفسه. كان ذلك قبل 48 عاماً، ويصف ميكي هذه الـ48 عاماً بأنها أوقات سعيدة. تزوجا بعد فترة قصيرة، وسرعان ما رُزقا بالأولاد. ترك ميكي مجال الرعاية الصحية، عندما اختار البقاء في المنزل ورعاية أطفالهما بينما تكون زوجته في عملها. بمجرد أن بدأ الأطفال يكبرون قليلاً، بدأ ميكي يستكشف اهتماماته.
كان ميكي عازف غيتار رائعاً، واستطاع الحصول على غيتاره الأول في أوائل العشرينيات من عمره. بعد فترة وجيزة من شرائه غيتاره، سافر هو وزوجته إلى إسبانيا مرتين، حيث عاشا مدة قصيرة في كل مرة. وبينما تعلمت إليزابيث الإسبانية، تعلم ميكي عزف موسيقى الفلامنكو. بعد ذلك، ولمدة 20 عاماً، رافق ميكي راقصي الفلامنكو على غيتاره. فالموسيقى هي شغفه الدائم، وفي ساعاته الموسيقية نراه يجمع بين حبه للموسيقى وصناعة الساعات الراقية والآليات المتحركة.
إبداعات متنوعة
بينما أخذ أطفاله يكبرون، بدأ ميكي صنع إبداعات خشبية. بدأت أولاً بترميم الأنتيكات وكان ناجحاً جداً في ذلك. أحد الأصدقاء علق ذات مرة على ما صنعه قائلاً: إذا كان لدي مثل هاتين اليدين الموهوبتين، كنت سأنشئ مشغلي الخاص وأعمل لصالح نفسي. شجع هذا التعليق ميكي على اتخاذ زمام المبادرة، وإنشاء مشغله الخاص لصنع الأثاث بحلول العام 1990، يقول: نظراً لأن زوجتي كانت تعمل بدوام كامل، لم أكن أتحمل عبء إعالة أسرتي مالياً، ولذا كان بإمكاني تحمل مخاطرة العمل مستقلاً، فعملت في تلك الأيام صانعاً.
بعد ست سنوات، طلبت إحدى الشركات من ميكي صنع آلة لمصنعها المختص بالمعالجة الغلفانية (التفاعل الكهروكيميائي). وغني عن القول، أن ميكي بهذا قد تعلم مرة أخرى بنفسه كيفية بناء – صنع – آلة، كما تعلم سابقاً كيفية ترميم التحف القديمة وصنع الأثاث. كان ميكي سريع التعلم جداً، كما كان رائعاً في استخدام يديه؛ وهذا المزيج يعني أنه كان من السهل عليه إتقان الحرف والمهارات الجديدة.
وبالحديث عن مجموعة الأشياء المتنوعة الصعبة التي قام بصنعها، يوضح ميكي أنه يتبع أفكاره فحسب، يقول: بمجرد أن تخطر لي فكرة، أفكر في كيفية صنعها. وإذا كنت أفتقر إلى المهارات أو المعرفة اللازمة لصنع شيء ما، أبحث عن الخبراء في هذا المجال، فأسألهم وأتعلم منهم بسرعة لإتقان تلك المهارة.
كان صنع تلك الآلة الغلفانية بمثابة لحظة فارقة بالنسبة إلى ميكي. فقبل ذلك كان ميكي يعارض بشدة فكرة العمل بالمعادن، لكن بمجرد أن بدأ بالفعل العمل بالمعدن لصنع الآلة، وجد الكثير من الأفكار حول الأشياء التي يمكنه صنعها باستخدام المعادن؛ ما جعله يدرك كم أَحبّ العمل بالمعادن، وهذا أدى إلى اهتمامه بالفن الحركي المصنوع من المعادن.
الفن الحركي
يصف ميكي حياته بأنها مراحل: لا أقوم بالقفز بين المجالات المختلفة، وإنما بطريقة ما يدفعني العمل في مجال ما إلى مجال آخر مختلف تماماً. لست أنا من يقرر القيام بهذا أو ذاك، بل اهتمامي هو من يقود طريقي. وسرعان ما كان يصنع منحوتات حركية – أعمال فنية متحركة – من مواد معاد تدويرها ومواد جديدة من جميع الأنواع. حققت قطع الفن الحركي التي أبدعها ميكي نجاحاً كبيراً، وقد ابتكر حوالي 80 قطعة من الفن الحركي؛ إما لتعليقها على الجدران أو لوضعها خارج الأبواب، من بينها عشر قطع رئيسية مهمة من الفن الحركي معروضة في مدن مختلفة.
صناعة الساعات
في أواخر تسعينيات القرن الماضي، كان ميكي لا يقوم بترميم الأثاث العتيق فحسب، بل أيضاً الساعات. في العام 2001، شكك أحد العملاء في دقة ساعاته التي قام ميكي بترميمها، وقال له: لا يمكنك بناء هذا النوع من الآلات بدقة، لأنك لا تملك المعرفة اللازمة للقيام بذلك. لكنه كان مخطئاً، بالتأكيد، حيث كانت الساعة تعمل بدقة. ميكي الذي آلمه ذلك القول تحدى زائره قائلاً: عد بعد عام واحد وسترى الساعة التي ابتكرتها، والتي ستكون فائقة الدقة. قرر ميكي التركيز على صنع ساعة من أجل التحدي، بما أن هذا هو جهاز القياس الأكثر دقة. في العام التالي، كان ميكي يسعى جاهداً بلا هوادة لتعلم صناعة الساعات.
يقول: كانت ساعتي الأولى أبشع شيء صنعته على الإطلاق، لكنني تمكنت من بيعها مقابل 7500 فرنك سويسري. كان كل شيء جديداً بالنسبة إليّ، كما كان كل شيء يمثل مشكلة. كان حساب عدد المسننات في التروس مشكلة كبيرة، لأنني لم أكن أحب الرياضيات على الإطلاق. كنت أعرف أحد صانعي الساعات، وفي كل مرة كنت أواجه مشكلة لم أستطع حلها، كنت أطلب مساعدته. وقد كان هو لطيفاً جداً وساعدني في إيجاد الحلول لتلك المشكلات. مشيت في طريقي خطوة خطوة، قرأت الكثير عن صناعة الساعات، لكن الرحلة بأكملها كانت صعبة للغاية؛ حيث كان عمري أكثر من 50 عاماً عندما بدأت صنع الساعات.
استغرق الأمر من ميكي أقل من عام لصنع ساعته الأولى. لكن للأسف، فإن الرجل الذي تحداه ميكي للعودة بعد عام لمشاهدة مهاراته في صناعة الساعات؛ لم يعد أبداً. يقول ميكي معتداً بنفسه: أود حقاً أن يرى القطع التي أصنعها الآن، مضيفاً: في البداية كنت في الأغلب أصنع ساعات، وفي بعض الأحيان كنت أقوم بصنع نوافير حسب الطلب، لكن اهتمامي كان منصباً على الساعات ولاحقاً على الآليات المتحركة.
في البدايات كانت الطلبات تأتيني من أناس في سويسرا، ومن أناس يعرفونني. ومن ثم بدأت عرض ساعاتي في المعارض. وفي وقت لاحق، في العام 2006، اقترح أحد الأصدقاء أنني ينبغي أن أتواصل مع أكاديمية (AHCI) Académie horlogère des créateurs indépendants (أكاديمية صناعة الساعات للصناّع المستقلين). وفي العام 2008 أصبحت عضواً في الأكاديمية، ومنذ ذلك الحين بدأت المشاركة في معرض بازل ورلد، وعرض ساعاتي هناك كل عام.
حققت ساعاته استجابة جيدة لدى الناس، الذين كانوا يأتون كل عام لمشاهدة إبداعات ميكي، حيث يعرض كل عام شيئاً جديداً ومختلفاً، يقول: عادة يقوم جميع أعضاء الأكاديمية بعرض ساعاتهم معاً في مساحة مشتركة، وهكذا كان هناك اهتمام كبير بهذه المساحة، حيث تجتذب الأعمال الخاصة بكل صانع ساعات أعداداً من عشاق الساعات، ومن ثم اكتسبت عملاء جدداً.
عن الأيام الأولى لميكي كصانع للساعات تقول زوجته إليزابيث: كنت لا أزال أعمل ممرضة عندما بدأ العمل على ساعته الأولى. كان يعمل في الصباح عندما كنت أعتني بالأطفال. وفي فترة بعد الظهر، كنت أذهب إلى العمل، وعندها يكون دور ميكي لرعاية الأسرة. لقد قسمنا مسؤولياتنا تجاه الأسرة، وكان من الجيد بالنسبة إلى الأولاد أن يقضي كلا الوالدين وقتاً كافياً معهم.
وبينما كان يأتيه الكثير من الطلبات، كانت هناك حالات عديدة قام فيها ميكي بصنع ساعة فقط لأنه أراد ذلك. يفضل ميكي العمل على أفكاره الخاصة بدلاً من ابتكار ساعات مصنّعة حسب الطلب، ثم يقوم بعرض تلك الساعات للعثور على الزبون الراغب في الشراء، وعادة ما يكون قادراً على بيعها، لكن أحياناً كان الناس يأتون إليه بطلبات محددة؛ على سبيل المثال، كان هناك رجل يريد صنع ساعة لابنته للاحتفال بوصولها سن البلوغ. عرفت ماذا كان الحيوان المفضل لدى الفتاة، وكذلك اللون والزهرة المفضلان لديها، ثم تركت خيالي يقود الموقف. أطلقت العنان لإبداعي وكانت الفتاة سعيدة بما صنعته.
أحد أكثر الطلبات التي تلقيتها غرابة على الإطلاق، كان عندما طلب شخص من عمان ساعة لتقديمها إلى الحاكم. تلقيت الطلب وعندما كنت في منتصف الطريق لصنع الساعة، جاءوا للإقامة هنا في زيورخ. كانوا يأتون إلى ورشتي كل يوم ويطلبون تغييرات طوال الوقت، وكان ذلك مزعجاً للغاية بالنسبة إليّ حيث لم أستطع التركيز في عملي، حتى اضُطررت في النهاية إلى منعهم من دخول ورشتي. فأنا أحتاج إلى جو من الهدوء والصمت حتى أتمكن من الاندماج في إبداعي.
الآليات المتحركة
لا تقوم إبداعات ميكي بالإخبار عن الزمن فحسب؛ فهي مزيج من الساعات والآليات المتحركة والأجهزة الرنانة، بينما توحي معظم إبداعاته بحكاية خرافية أو أجواء غريبة. يقول: بينما أقضي المزيد من الوقت في العمل على صنع الساعات، أجد نفسي أتعمق أكثر في المفاهيم الفلسفية للزمن والحياة. ينبغي للرجل الذي ينظر إلى ساعة يده أن يدرك أنه عابر سريع الزوال، لكن الزمن أبدي. أحاول أن أمنح هذه المفاهيم شكلاً من خلال عملي، على سبيل المثال من خلال ساعتي Minute Eater أردت قول إن الحياة جميلة، تمتع بها؛ لأنه مع كل دقيقة تضيعها تفقد دقيقة من حياتك. فكل واحد منا لديه حيوان، مثل ذلك الحيوان في تلك الساعة، في داخلنا يأكل دقائقنا. أريد تذكير الناس بأنه ينبغي لهم الاستمتاع بالحياة، فالوقت هدية. Minute Eater ليست مجرد ساعة، بل هي تصريح فلسفي.
العرض في ماد غاليري
شاهد ماكسيميليان بوسير، مؤسس إم بي آند إف وصالات عرض ماد غاليري – M.A.D. Gallery وكلمة M.A.D. اختصار لعبارة Mechanical Art Devices (أجهزة الفن الميكانيكي) – أعمالي في معرض بازل ورلد وأُعجب بها. جاء بحثاً عني في العام 2012، وسألني ما إذا كنت مهتماً بالعرض في صالات ماد غاليري. وماكس من الأشخاص المهتمين بتسليط الضوء على أعمال الفنانين وصانعي الساعات الجدد وتشجيعهم. وقد أثبت عرض أعمالي في صالات غاليري بالتأكيد أنه خطوة إلى الإمام بالنسبة إليّ، كما كان ماكس هو من مهّد لي الطريق للتمكن من المشاركة في معرض أسبوع دبي للساعات.
رجل كل المهام
عمل ميكي دائماً بنفسه وحده، ولم يكن لديه أي أحد ليساعده أو يعمل على ساعاته. وعندما سئل عمن يتولى خدمة ما بعد البيع أو الإصلاحات التي قد تحتاج إليها الساعات، أجاب بفخر: تقريباً لم يكن أي من أعمالي بحاجة إلى أي نوع من الإصلاحات، حتى الآن. ساعة واحدة فقط بيعت لشخص في ألمانيا كانت تعاني من بعض المشاكل، التي كانت موجودة منذ البداية. وقد اضُطررت إلى الذهاب إلى هناك مرتين أو ثلاثاً، حتى تمكنت من إصلاح الخطأ.
الموازنة بين الحياة والعمل
يعمل ميكي على إبداعاته كل يوم من الصباح حتى وقت متأخر من الليل، لكنه أيضاً شخص يعرف كيف يستمتع بحياته ويعيشها. فإذا قام أي من أحفاده – وهو لديه أربعة أحفاد – بزيارته؛ فليؤجَل إذن عمل اليوم، يقول: الحياة أهم من أي شيء آخر. لدي حديقة كبيرة، فعندما أواجه أي مشكلة أو أكون مضغوطاً في عملي، أقضي الوقت في حديقتي. تساعدني البستنة في تصفية ذهني وتفكيري، وعادة ما أجد بعدها حلاً للمشكلات. فأنا لدي طريقتي الخاصة في العمل.
ماذا بعد
كانت جائحة كورونا تعني أن ميكي لا يمكنه بيع أي شيء، حيث لم يكن قادراً على عرض ساعاته في أي مكان، ولكنها كانت أيضاً أمراً جيداً حيث منحته الكثير من الوقت للإبداع. أعتقد أنني وجدت مكاني بعد التجول على العديد من المجالات. قد أعمل أكثر بالمعادن، لكن على الأرجح سأبقى في مجال صناعة الساعات، وسأبتكر المزيد من القطع الجميلة.
يقول: يحب أحفادي أن يأتوا معي إلى ورشتي، حتى إنهم يساعدونني أحياناً، لكن لا أحد منهم مهتم بأن تكون مهنته في المستقبل. فأحفادي كأنهم جزء من عائلة من لاعبي السيرك، وحالياً هم حريصون على أن يكونوا موجودين داخل السيرك.